فصل: تفسير الآية رقم (73)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن ***


تفسير الآية رقم ‏[‏73‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا ‏(‏73‏)‏‏}‏

الفضل هنا‏:‏ الظفر بالعدو والغنيمة‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ليقولن بفتح اللام‏.‏ وقرأ الحسن‏:‏ ليقولن بضم اللام، أضمر فيه ضمير الجمع على معنى من‏.‏ وقرأ ابن كثير وحفص‏.‏ كأنْ لم تكن بتاء التأنيث، والباقون بالياء‏.‏ وقرأ الحسن ويزيد النحوي‏:‏ فأفوزُ برفع الزاي عطفاً على كنت، فتكون الكينونة معهم والفوز بالقسمة داخلين في التمني، أو على الاستئناف أي فأنا أفوز‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ بنصب الزاي، وهو جواب التمني، ومذهبُ جمهور البصريين‏:‏ أنّ النصب بإضمار أن بعد الفاء، وهي حرف عطف عطفت المصدر المنسبك من أن المضمرة والفعل المنصوب بها على مصدر متوهم‏.‏ ومذهب الكوفيين‏:‏ أنه انتصب بالخلاف، ومذهب الجرمي‏:‏ أنه انتصب بالفاء نفسها، ويا عند قوم للنداء، والمنادي محذوف تقديره‏:‏ يا قوم ليتني‏.‏ وذهب أبو علي‏:‏ إلى أن يا للتنبيه، وليس في الكلام منادى محذوف، وهو الصحيح‏.‏ وكأنْ هنا مخففة من الثقيلة، وإذا وليتها الجملة الفعلية فتكون مبدوءة بقد، نحو قوله‏:‏

لا يهولنك اصطلاؤك للحر *** ب فمحذورها كان قد ألما

أو بلم كقوله‏:‏ «كان لم يكن» «كأن لم تغن بالأمس» ووجدت في شعر عمار الكلبي ابتداءها في قوله‏:‏

بددت منها الليالي شملهم *** فكأن لما يكونوا قبل ثم

وينبغي التوقف في جواز ذلك حتى يسمع من لسان العرب‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ وكأنْ مضمنة معنى التشبيه، ولكنها ليست كالثقيلة في الحاجة إلى الاسم والخبر، وإنما تجيء بعدها الجمل انتهى‏.‏ وهذا الذي ذكره غير محرر، ولا على إطلاقه‏.‏ أما إذا خفقت ووليها ما كان يليها وهي ثقيلة، فالأكثر والأفصح أن ترتفع تلك الجملة على الابتداء والخبر، ويكون اسم كان ضمير شأن محذوفاً، وتكون تلك الجملة في موضع رفع خبر كان‏.‏ وإذا لم ينو ضمير الشأن جاز لها أن تنصب الاسم إذا كان مظهراً، وترفع الخبر هذا ظاهر كلام سيبويه‏.‏ ولا يخص ذلك بالشعر، فنقول‏:‏ كأن زيداً قائم‏.‏ قال سيبويه‏:‏ وحدثنا من يوثق به أنه سمع من العرب من يقول‏:‏ إن عمر المنطلق وأهل المدينة يقرؤون‏:‏ وأن كلا لما يخففون وينصبون كما قال‏:‏ كأن ثدييه حقان، وذلك لأن الحرف بمنزلة الفعل، فلما حذف من نفسه شيء لم يغير عمله، كما لم يغير عمل لم يك، ولم أبل حين حذف انتهى‏.‏ فظاهر تشبيه سيبويه أن عمر المنطلق بقوله‏:‏ كأن ثدييه حقان جواز ذلك في الكلام، وأنه لا يختص بالشعر‏.‏

وقد نقل صاحب رؤوس المسائل‏:‏ أن كأنْ إذا خفقت لا يجوز إعمالها عند الكوفيين، وأن البصريين أجازوا ذلك‏.‏ فعلى مذهب الكوفيين قد يتمشى قول ابن عطية في أنَّ كانْ المخففة ليست كالثقيلة في الحاجة إلى الاسم والخبر، وأما على مذهب البصريين فلا، لأنها عندهم لا بد لها من اسم وخبر‏.‏

والجملة من قوله‏:‏ كأنْ لم يكن بينكم وبينه مودة اختلف المفسرون فيها ونحن نسرد كلام من وقفنا على كلامه فيها‏.‏ فنقول‏:‏ قال الزمخشري‏:‏ اعتراض بين الفعل الذي هو ليقولن، وبين مفعوله وهو يا ليتني، والمعنى‏:‏ كأنْ لم يتقدم له معكم مودة، لأنّ المنافقين كانوا يوادون المؤمنين ويصادقونهم في الظاهر، وإن كانوا يبغون لهم الغوائل في الباطن‏.‏ والظاهر أنه تهكم، لأنهم كانوا أعدى عدوّ للمؤمنين وأشدهم حسداً لهم، فكيف يوصفون بالمودة إلا على وجه العكس تهكماً بحالهم‏؟‏ وقال ابن عطية‏:‏ المنافق يعاطي المؤمنين المودة، ويعاهد على التزام كلف الإسلام، ثم يتخلف نفاقاً وشكاً وكفراً بالله ورسوله، ثم يتمنى عندما يكشف الغيب الظفر للمؤمنين‏.‏ فعلى هذا يجيء قوله تعالى‏:‏ كأن لم تكن بينكم وبينه مودة، التفاتة بليغة واعتراضاً بين القائل والمقول بلفظ يظهر زيادة في قبح فعلهم‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ هذه الجملة اعتراض، أخبر تعالى بذلك لأنهم كانوا يوادون المؤمنين‏.‏ وقال أيضاً، وتبعه الماتريدي هذا على التقديم والتأخير تقديره‏:‏ فإنْ أصابتكم مصيبة قال‏:‏ قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم شهيداً، كأنْ لم تكن بينكم وبينه مودة، ولئن أصابكم فضل من الله‏.‏ قال الراغب‏:‏ وذلك مستقبح، فإنه لا يفصل بين الجملة وبعض ما يتعلق بجملة أخرى‏.‏ وقال أيضاً‏:‏ وتبعه أبو البقاء‏:‏ موضع الجملة نصب على الحال كما تقول‏:‏ مررت بزيد وكان لم يكن بينك وبينه معرفة، فضلاً عن مودة‏.‏ وقال أبو علي الفارسي‏:‏ هذه الجملة من قول المنافقين الذين أقعدوهم عن الجهاد وخرجوا هم، كأن لم تكن بينكم وبينه أي‏:‏ وبين النبي صلى الله عليه وسلم مودة فيخرجكم معهم لتأخذوا من الغنيمة، ليبغضوا بذلك الرسول إليهم‏.‏ وتبع أبو علي في ذلك مقاتلاً‏.‏ قال مقاتل‏:‏ معناه كأنه ليس من أهل ملتكم ولا مودة بينكم، يريد‏:‏ أنّ المبطئ قال لمن تخلف عن الغزو من المنافقين وضعفة المؤمنين، ومن تخلف بإذن كأن لم تكن بينكم وبين محمد مودة فيخرجكم إلى الجهاد، فتفوزون بما فاز‏.‏ وقال أبو عبد الله الرازي‏:‏ هو اعتراض في غاية الحسن، لأن من أحب إنساناً فرح عند فرحه، وحزن عند حزنه، فإذا قلب القضية فذلك إظهار للعداوة‏.‏ فنقول‏:‏ حكى تعالى عن المنافق سروره وقت نكبة المسلمين، ثم أراد أن يحكي حزنه عند دولة المسلمين بسبب أنه فاتته الغنيمة، فقبل أن يذكر الكلام بتمامه ألقى قوله‏:‏ كأن لم يكن بينكم وبينه، والمراد التعجب‏.‏ كأنه يقول تعالى‏:‏ انظروا إلى ما يقوله هذا المنافق، كأنْ لم يكن بينكم وبينه مودة أيها المؤمنون ولا مخالطة أصلاً، فهذا هو المراد من الكلام‏.‏

وقال قتادة وابن جريج‏:‏ قول المنافق‏:‏ يا ليتني كنت معهم على معنى الحسد منه للمؤمنين في نيل رغبته‏.‏

وتلخص من هذه الأقوال أن هذه الجملة‏:‏ إمّا أن يكون لها موضع من الإعراب نصب على الحال من الضمير المستكن في ليقولن، أو نصب على المفعول بيقولن على الحكاية، فيكون من جملة المقول، وجملة المقول هو مجموع الجملتين‏:‏ جملة التشبيه، وجملة التمني‏.‏ وضمير الخطاب للمتخلفين عن الجهاد، وضمير الغيبة في وبينه للرسول‏.‏ وعلى الوجه الأول ضمير الخطاب للمؤمنين، وضمير الغيبة للقائل‏.‏ وإمّا أن لا يكون لها موضع من الإعراب لكونها اعتراضاً في الأصل بين جملة الشرط وجملة القسم وأخرت، والنية بها التوسط بين الجملتين‏.‏ أو لكونها اعتراضاً بين‏:‏ ليقولن ومعموله الذي هو جملة التمني، ولبس اعتراضاً يتعلق بمضمون هذه الجملة المتأخرة، بل يتعلق بمضمون الجملتين، والضمير الذي للخطاب هو للمؤمنين، وفي بينه للقائل‏.‏ واعترض به بين أثناء الحملة الأخيرة، ولم يتأخر بعدها وإنْ كان من حيث المعنى متأخراً إذ معناه متعلق بمضمون الجملتين، لأن معمول القول النية به التقديم، لكنه حسن تأخيره كونه وقع فاصلة‏.‏ ولو تأخرت جملة الاعتراض لم يحسن لكونها ليست فاصلة، والتقدير‏:‏ ليقولن يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً كأنْ لم يكن بينكم وبينه مودة، إذ صدر منه قوله وقت المصيبة‏:‏ قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم شهيداً‏.‏ وقوله‏:‏ وقت الغنيمة يا ليتني كنت معهم، وهذا قول من لم تسبق منه مودة لكم‏.‏

وفي الآيتين تنبيه على أنهم لا يعدّون من المنح إلا أغراض الدنيا، يفرحون بما ينالون منها، ولا من المحن إلا مصائبها فيتألمون لما يصيبهم منها كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه‏}‏ الآية‏.‏ وتضمنت هذه الجملة أنواعاً من الفصاحة والبديع‏:‏ دخول حرف الشرط على ما ليس بشرط في الحقيقة في قوله‏:‏ إن كنتم تؤمنون‏.‏ والإشارة في ذلك‏:‏ خير أولئك الذين يعلم الله، فأولئك مع الذين، وحسن أولئك رفيقاً، ذلك الفضل من الله‏.‏ والاستفهام المراد به التعجب في‏:‏ ألم تر إلى الذين يزعمون‏.‏ والتجنيس المغاير في‏:‏ أن يضلهم ضلالاً، وفي‏:‏ أصابتهم مصيبة، وفي‏:‏ وقل لهم في أنفسهم قولاً، وفي‏:‏ يصدّون عنك صدوداً، وفي‏:‏ ويسلموا تسليماً، وفي‏:‏ فإنْ أصابتكم مصيبة، وفي‏:‏ فأفوز فوزاً عظيماً‏.‏ والاستعارة في‏:‏ فإن تنازعتم، أصل المنازعة الجذب باليد، ثم استعير للتنازع في الكلام‏.‏ وفي‏:‏ ضلالاً بعيداً استعار البعد المختص بالأزمنة والأمكنة للمعاني المختصة بالقلوب لدوام القلوب عليها، وفي‏:‏ فيما شجر بينهم استعار ما اشتبك وتضايق من الشجر للمنازعة التي يدخل بها بعض الكلام في بعض استعارة المحسوس للمعقول وفي‏:‏ أنفسهم حرجاً أطلق اسم الحرج الذي هو من وصف الشجر إذا تضايق على الأمر الذي يشق على النفس للمناسبة التي بينهما وهو من الضيق والتتميم، وهو أن يتبع الكلام كلمة تزيد المعنى تمكناً وبياناً للمعنى المراد وهو في قوله قولاً بليغاً أي‏:‏ يبلغ إلى قلوبهم ألمه أو بالغاً في زجرهم‏.‏

وزيادة الحرف لزيادة المعنى في‏:‏ من رسول أتت للاستغراق إذ لو لم تدخل لا وهم الواحد‏.‏ والتكرار في‏:‏ استغفر واستغفروا أنفسهم، وفي أنفسهم واسم الله في مواضع‏.‏ والالتفات في‏:‏ واستغفر لهم الرسول‏.‏ والتوكيد بالمصدر في‏:‏ ويسلموا تسليماً‏.‏ والتقسيم البليغ في قوله‏:‏ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين‏.‏ وإسناد الفعل إلى ما لا يصح وقوعه منه حقيقة في‏:‏ أصابتكم مصيبة، وأصابكم فضل‏.‏ وجعل الشيء من الشيء وليس منه لمناسبة في قوله‏:‏ وإن منكم لمن ليبطئن‏.‏ والاعتراض على قول الجمهور في قوله‏:‏ كأن لم يكن بينكم وبينه مودّة‏.‏ والحذف في مواضع‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏74- 78‏]‏

‏{‏فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏74‏)‏ وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا ‏(‏75‏)‏ الَّذِينَ آَمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ‏(‏76‏)‏ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا ‏(‏77‏)‏ أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ‏(‏78‏)‏‏}‏

إدراك الشيء الوصول إليه ونيله‏.‏ البرج‏:‏ الحصن‏.‏ وقيل‏:‏ القصر‏.‏ والبروج‏:‏ منازل القمر، وكلها من برج إذا ظهر، ومنه التبرج وهو إظهار المرأة محاسنها، والبرج في العين اتساعها‏.‏ المشيد‏:‏ المصنوع بالشيد وهو الجص‏.‏ يقال‏:‏ شاد وشيد كرر العين للمبالغة، ككسرت العود مرة وكسرته في مواضع، وخرقت الثوب وخرقته إذا كان الخرق منه في مواضع‏.‏ فعلى هذا يقال‏:‏ شاد الجدار‏.‏ ومنه قال والشاعر‏:‏

شاده مرمراً وجلله كلساً *** فللطير في ذراه وكور

والمشيد‏:‏ المطول المرفوع يقال‏:‏ شيد وأشاد البناء رفعه وطوّله، ومنه أشاد الرجل ذكر الرجل إذا رفعه‏.‏ الفقه‏:‏ الفهم‏.‏ يقال‏:‏ فقهت الحديث إذا فهمته، وفقه الرجل صار فقيهاً‏.‏

‏{‏فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة‏}‏ قيل‏:‏ نزلت في المنافقين الذين تخلفوا عن أحد‏.‏ ويشرون بمعنى يشترون‏.‏ والمعنى‏:‏ أخلصوا الإيمان بالله ورسوله، ثم جاهدوا في سبيل الله‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في المؤمنين المتخلفين، ويشرون بمعنى يبيعون ويؤثرون الآجلة على العاجلة، ويستبدلونها بها أمر الله تعالى بالجهاد من تخلف من ضعفة المؤمنين‏.‏

‏{‏ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجراً عظيماً‏}‏ ثم وعد من قاتل في سبيل الله بالأجر العظيم، سواء استشهد، أو غلب‏.‏ واكتفى في الحالتين بالغاية، لأن غاية المغلوب في القتال أن يقتل، وغاية الذي يقتل أن يغلب ويغنم، فأشرف الحالتين ما بدء به من ذكر الاستشهاد في سبيل الله، ويليها أنْ يقتل أعداء الله، ودون ذلك الظفر بالغنيمة، ودون ذلك أن يغزو فلا يصيب ولا يصاب‏.‏ ولفظ الجهاد في سبيل الله يشمل هذه الأحوال، والأجر العظيم فسر بالجنة‏.‏ والذي يظهر أنه مزيد ثواب من الله تعالى مثل كونهم أحياء عند ربهم يرزقون، لأن الجنة موعود دخولها بالإيمان‏.‏ وكان الذي فسره بالجنة ينظر إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة‏}‏ الآية‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ فليقاتل بسكون لام الأمر‏.‏ وقرأت فرقة‏:‏ بكسرها على الأصل‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ فيُقتل مبنياً للمفعول‏.‏ وقرأ محارب بن دثار‏:‏ فيقتل على بناء الفعل للفاعل‏.‏ وأدغم يغلب في الفاء أبو عمرو والكسائي وهشام وخلاد بخلاف عنه، وأظهرها باقي السبعة‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ نؤتيه بالنون‏.‏ وقرأ الأعمش وطلحة بن مصرف‏:‏ يؤتيه بالياء‏.‏

‏{‏وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيراً‏}‏ هذا الاستفهام فيه حثّ وتحريض على الجهاد في سبيل الله، وعلى تخليص المستضعفين‏.‏ والظاهر أنّ قوله‏:‏ لا تقاتلون في موضع الحال، وجوزوا أن يكون التقدير‏:‏ وما لكم في أنْ لا تقاتلوا، فلما حذف حرف الجر، وحذف أنْ، ارتفع الفعل، والمستضعفين هو مطعوف على اسم الله أي‏:‏ وفي سبيل المستضعفين‏.‏

وقال المبرد والزجاج‏:‏ هو معطوف على سبيل الله أي‏:‏ في سبيل الله، وفي خلاص المستضعفين‏.‏ وقرأ ابن شهاب‏:‏ في سبيل الله المستضعفين بغير واو عطف‏.‏ فإما أن يخرج على إضمار حرف العطف، وإما على البدل من سبيل الله أي‏:‏ في سبيل الله سبيل المستضعفين لأنه سبيل الله تعالى‏.‏ وأجاز الزمخشري أن يكون‏:‏ والمستضعفين منصوباً على الاختصاص يعني‏:‏ واختص من سبيل الله خلاص المستضعفين، لأن سبيل الله عام في كل خير، وخلاص المستضعفين من المسلمين من أيدي الكفار من أعظم الخير وأخصه انتهى كلامه‏.‏ ولا حاجة إلى تكلف نصبه على الاختصاص، إذ هو خلاف الظاهر‏.‏

ويعني بالمستضعفين من كان بمكة من المؤمنين تحت إذلال قريش وأذاهم، إذ كانوا لا يستطيعون خروجاً، ولا تطيب لهم على الأذى إقامة‏.‏ ومن المستضعفين‏:‏ عبد الله بن عباس وأمه، وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنجاة للمستضعفين من المؤمنين وسمى منهم‏:‏ الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة‏.‏ وقوله‏:‏ من الرجال والنساء والولدان تبيين للمستضعفين‏.‏

والظاهر أنّ الولدان المراد به الصبيان، وهو جمع وليد‏.‏ قيل‏:‏ وقد يكون جمع ولد، كورل وورلان‏.‏ ونبه على الولدان تسجيلاً بإفراط ظلم من ظلمهم، وهم غير مكلفين ليتأذى بذلك آباؤهم، ولأنهم كانوا يشركون آباءهم في الدعاء طلباً لرحمة الله تعالى، وتخليصهم من أذى الكفار‏.‏ وهم أقرب إلى الإجابة حيث لم تكن لهم ذنوب كما فعل قوم يونس، وكما هي السنة في خروج الصبيان في الاستسقاء‏.‏ وقيل المراد بقوله من الرجال والنساء الأحرار، وبالولدان العبيد لأنه يطلق على العبد وليد، وعلى الأمة وليدة وغلب المذكر على المؤنث إذ درج المؤنث في الجمع و‏{‏الذين يقولون ربنا أخرجنا‏}‏ ليس لهم من القوة والمنعة من الظلم إلا بالدعاء والاستنصار بالله تعالى، والقرية هنا مكة بإجماع‏.‏

وتكلموا في جريان الظالم وهو مذكر على القرية وهو مؤنث، وهذا من واضح النحو‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ لو أنث فقيل‏:‏ الظالمة، أو جمع فقيل‏:‏ الظالمين، وأجاب عن ذلك وهذا لم يقرأ به، فيحتاج إلى الكلام فيه‏.‏ ولو تعرضنا لما يجوز في العربية في تراكيب القرآن لطال ذلك وخرجنا به عن طريقة التفسير‏.‏ ووصف أهلها بالظلم إمّا لإشراكهم، وإمّا لما حصل منهم من شدة الوطأة على المؤمنين وإذلالهم‏.‏

قال ابن عطية‏:‏ والآية تتناول المؤمنين والأسرى، وحواضر الشرك إلى يوم القيامة انتهى‏.‏ ولما دعوا ربهم أجاب كثيراً منهم في الخروج، فهاجر بعضهم إلى المدينة، وفر بعضهم إلى الحبشة، وبقي بعضهم إلى الفتح‏.‏ والجمهور على أنّ الله تعالى استجاب دعاءهم، فجعل لهم من لدنه خير وليّ وناصر وهو محمد صلى الله عليه وسلم، فتولاهم أحسن التولي، ونصرهم أقوى النصر‏.‏

ولما خرج من مكة ولى عليهم عتاب بن أسيد وعمره أحد وعشرون سنة، فرأوا منه الولاية والنصر كما سألوا‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ كان ينصف الضعيف من القوي، حتى كانوا أعز بها من الظلمة‏.‏

‏{‏الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفاً‏}‏ لما أمر تعالى المؤمنين أولاً بالنفر إلى الجهاد، ثم ثانياً بقوله‏:‏ ‏{‏فليقاتل في سبيل الله‏}‏ ثم ثالثاً على طريق الحث والحض بقوله‏:‏ ‏{‏وما لكم لا تقاتلون‏}‏ أخبر في هذه الآية بالتقسيم أن المؤمن هو الذي يقاتل في سبيل الله، وأن الكافر هو الذي يقاتل في سبيل الطاغوت، ليبين للمؤمنين فرق ما بينهم وبين الكفار، ويقويهم بذلك ويشجعهم ويحرضهم‏.‏ وإنّ مَن قاتل في سبيل الله هو الذي يغلب، لأن الله هو وليه وناصره‏.‏ ومن قاتل في سبيل الله الطاغوت فهو المخذول المغلوب‏.‏ والطاغوت هنا الشيطان لقوله‏:‏ فقاتلوا أولياء الشيطان‏.‏ وهنا محذوف، التقدير‏:‏ فقاتلوا أولياء الشيطان فإنكم تغلبونهم لقوتكم بالله، ثم علل هذا المحذوف وهو غلبتكم إياهم بأنّ كيد الشيطان ضعيف، فلا يقاوم نصر الله وتأييده، وشتان بين عزم يرجع إلى إيمان بالله وبما وعد على الجهاد، وعزم يرجع إلى غرور وأماني كاذبة‏.‏ ودخلت كان في قوله‏:‏ كان ضعيفاً إشعاراً بأنّ هذا الوصف سابق لكيد الشيطان، وأنه لم يزل ضعيفاً‏.‏ وقيل‏:‏ هي بمعنى صار أي‏:‏ صار ضعيفاً بالإسلام‏.‏ وقول من زعم‏:‏ أنها زائدة، ليس بشيء‏.‏ وقال الحسن‏:‏ أخبرهم أنهم سيظهرون عليهم، فلذلك كان ضعيفاً‏.‏

‏{‏ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية‏}‏ خرّج النسائي في سننه عن ابن عباس‏:‏ أن عبد الرحمن بن عوف وأصحاباً له أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فقالوا‏:‏ يا نبيّ الله كنا في عز ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة‏.‏ فقال‏:‏ إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم، فلما حوله الله تعالى إلى المدينة أمره بالقتال فكفوا، فأنزل الله هذه الآية‏.‏ ونحو هذا روي عن قتادة والسدي ومقاتل‏.‏ وروي عن ابن عباس أيضاً‏:‏ نزلت واصفة أحوال قوم كانوا في الزمن المتقدم‏.‏ قال أبو سليمان الدمشقي‏:‏ كأنه يومئ إلى قصة الذين قالوا‏:‏ ‏{‏ابعث لنا مليكاً‏}‏ وقال مجاهد‏:‏ نزلت في اليهود‏.‏ وقال الحسن‏:‏ في المؤمنين لقوله‏:‏ يخشون الناس، أي‏:‏ مشركي مكة‏.‏ والخشية هي ما طبع عليه البشر من المخافة، لا على المخالفة‏.‏ ونحو ما قال الحسن‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ قال كعّ فريق منهم لا شكاً في الدين ولا رغبة عنه، ولكن نفوراً عن الأخطار بالأرواح، وخوفاً من الموت‏.‏ وقال قوم‏:‏ كان كثير من العرب استحسنوا الدخول في الدين على فرائضه التي قبل القتال من الصلاة والزكاة ونحوها، والموادعة، فلما نزل القتال شق ذلك عليهم وجزعوا له، فنزلت‏.‏

ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة لأنه تعالى لما أمر بالقتال حين طلبوه وجب امتثال أمر الله، فلما كعَّ عنه بعضهم قال تعالى‏:‏ ألا تعجب يا محمد من ناس طلبوا القتال فأمروا بالموادعة، فلما كتب عليهم فرق فريق وجزع‏.‏ ومعنى كفوا أيديكم‏:‏ أي عن القتال، يدل عليه‏:‏ فلما كتب عليهم القتال‏.‏ وقال أبو عبد الله الرازي‏:‏ لا يقال كفوا إلا للراغبين فيه، وهم المؤمنون‏.‏ وقيل‏:‏ يريد المنافقين‏.‏ وإنما قال‏:‏ كفوا لأنهم كانوا يظهرون الرغبة فيه انتهى‏.‏

وقال أيضاً‏:‏ ودلت الآية على أن إيجاب الصلاة والزكاة كان مقدماً على إيجاب الجهاد، وهذا الترتيب هو المطابق لما في العقول، لأن الصلاة عبارة عن التعظيم لأمر الله، والزكاة عبارة عن الشفقة على خلق الله‏.‏ ولا شك أنهما متقدمان على الجهاد‏.‏ والفريق إمّا منافقون، وإما مؤمنون، أو ناس في الزمان المتقدم، أو أسلموا قبل فرض القتال حسب اختلاف سبب النزول‏.‏ والناس هنا أهل مكة قاله الجمهور، أو كفار أهل الكتاب ومشركو العرب‏.‏

ولمّا حرف وجوب لوجوب على مذهب سيبويه، وظرف زمان بمعنى حين على مذهب أبي علي‏.‏ وإذا كانت حرفاً وهو الصحيح فجوابه إذا الفجائية، وإذا كانت ظرفاً فيحتاج إلى عامل فيها فيعسر، لأنه لا يمكن أن يعمل ما بعد إذا الفجائية فيما قبلها، ولا يمكن أن يعمل في لما الفعل الذي يليها، لأنّ لمّا هي مضافة إلى الجملة بعدها‏.‏ فقال بعضهم‏:‏ العامل في لمّا معنى يخشون، كأنه قيل‏:‏ جزعوا‏.‏ قال‏:‏ وجزعوا هو العامل في إذا بتقدير الاستقبال‏.‏ وهذه الآية مشكلة لأن فيها ظرفين أحدهما‏:‏ لما مضى، والآخر‏:‏ لما يستقبل انتهى‏.‏ والذي نختاره مذهب سيبويه في لمّا، وأنها حرف‏.‏ ونختار أنّ إذا الفجائية ظرف مكان يصح أن يجعل خبراً للاسم المرفوع بعده على الابتداء، ويصح أن يجعل معمولاً للخبر‏.‏ فإذا قلت‏:‏ لما جاء زيد إذا عمرو قائم، يجوز نصب قائم على الحال‏.‏ وإذا حرف يصح رفعه على الخبر، وهو عامل في إذا‏.‏ وهنا يجوز أن يكون إذا معمولاً ليخشون، ويخشون خبر فريق‏.‏ ويجوز أن يكون خبراً، ويخشون حال من فريق، ومنهم على الوجهين صفة لفريق‏.‏ ومن زعم أنَّ إذا هنا ظرف زمان لما يستقبل فقوله فاسد، لأنه إن كان العامل فيها ما قبلها استحال، لأن كتب ماض، وإذا للمستقبل‏.‏ وإن تسومح فجعلت إذا بمعنى إذْ صار التقدير‏:‏ فلما كتب عليهم القتال في وقت خشية فريق منهم، وهذا يفتقر إلى جواب لما، ولا جواب لها‏.‏ وإن كان العامل فيها ما بعدها، احتاجت إلى جواب هو العامل فيها، ولا جواب لها‏.‏ والقول في إذا الفجائية‏:‏ أهي ظرف زمان‏؟‏ أم ظرف مكان‏؟‏ أم حرف مذكور في علم النحو‏؟‏ والكاف في كخشية الله في موضع نصب‏.‏

قيل‏:‏ على أنه نعت لمصدر محذوف أي‏:‏ خشية كخشية الله‏.‏ وعلى ما تقرر من مذهب سيبويه أنها على الحال من ضمير الخشية المحذوف، أي‏:‏ يخشونها الناس أي‏:‏ يخشون الخشية الناس مشبهة خشية الله‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ ‏(‏فإن قلت‏)‏‏:‏ ما محل كخشية الله من الإعراب‏؟‏ ‏(‏قلت‏)‏‏:‏ محلها النصب على الحال من الضمير في يخشون، أي‏:‏ يخشون الناس مثل أهل خشية الله أي‏:‏ مشبهين لأهل خشية الله‏.‏ أو أشد خشية، يعني‏:‏ أو أشد خشية من أهل خشية الله‏.‏ وأشد معطوف على الحال‏.‏ ‏(‏فإن قلت‏)‏‏:‏ لم عدلت عن الظاهر وهو كونه صفة للمصدر ولم تقدره‏:‏ يخشون خشية الله، بمعنى مثل ما يخشى الله‏؟‏ ‏(‏قلت‏)‏‏:‏ أبى ذلك قوله‏:‏ أو أشد خشية، لأنه وما عطف عليه في حكم واحد‏.‏ ولو قلت‏:‏ يخشون الناس أشدّ خشية لم يكن إلا حالاً عن ضمير الفريق، ولم ينتصب انتصاب المصدر، لأنك لا تقول‏:‏ خشي فلان أشد خشية، فتنصب خشية وأنت تريد المصدر، إنما تقول‏:‏ أشد خشية فتجرها، وإذا نصبتها لم يكن أشد خشية إلا عبارة عن الفاعل حالاً منه، اللهم إلا أنْ تجعل الخشية خاشية على حد قولهم‏:‏ جد جده، فتزعم أن معناه يخشون الناس خشية مثل خشية أشدّ خشية من خشية الله‏.‏ ويجوز على هذا أن يكون محل أشدّ مجروراً عطفاً على خشية الله، يريد‏:‏ كخشية الله أو كخشية أشدّ خشية منها انتهى كلامه‏.‏ وقد يصح نصب خشية، ولا يكون تمييزاً فيلزم من ذلك ما التزمه الزمخشري، بل يكون خشية معطوفاً على محل الكاف، وأشدّ منصوباً على الحال لأنه كان نعت نكرة تقدم عليها فانتصب على الحال والتقدير‏:‏ يخشون الناس مثل خشية الله أو خشية أشد منها‏.‏ وقد ذكرنا هذا التخريج في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا‏}‏ وأوضحناه هناك‏.‏ وخشية الله مصدر مضاف إلى المفعول، والفاعل محذوف أي‏:‏ كخشيتهم الله‏.‏ وأو على بابها من الشك في حق المخاطب، وقيل‏:‏ للإبهام على المخاطب‏.‏ وقيل‏:‏ للتخيير‏.‏ وقيل‏:‏ بمعنى الواو‏.‏ وقيل‏:‏ بمعنى بل‏.‏ وتقدّم نظير هذه الأقوال في قوله‏:‏ ‏{‏أو أشد قسوة‏}‏ ولو قيل أنها للتنويه، لكان قولاً يعني‏:‏ أنّ منهم من يخشى الناس كخشية الله، ومنهم من يخشاهم خشية تزيد على خشيتهم الله‏.‏

‏{‏وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب‏}‏ الظاهر أن القائلين هذا‏:‏ هم منافقون، لأن الله تعالى إذا أمر بشيء لا يسأل عن علته من هو خالص الإيمان، ولهذا جاء السياق بعده‏:‏ ‏{‏وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك‏}‏ وهذا لا يصدر إلا من منافق‏.‏ ولولا للتحضيض بمعنى هلاّ وهي كثيرة في القرآن‏.‏

والأجل القريب هنا هو موتهم على فرشهم كذا قاله المفسرون‏.‏ وذكر في حرف ابن مسعود‏:‏ لولا أخرتنا إلى أجل قريب فنموت حتف أنفنا ولا نقتل، فتسر بذلك الأعداء‏.‏ ومن قال‏:‏ إنه من قول المؤمنين، فيكونون قد طلبوا التأخير في كتب القتال إلى وقت ظهور الإسلام وكثرته، وهو بعيد‏.‏ لأن لفظ لم رد في صدر أمر الله، وعدم استسلامهم له مع قولهم‏:‏ وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ لولا أخرتنا إلى أجل قريب استزادة في مدّة الكف، واستمهال إلى وقت آخر كقوله‏:‏ ‏{‏لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصَّدق‏}‏ وقال الراغب‏:‏ وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال، يجوز أن يكون تفوهوا به، ويجوز أن يكون اعتقدوه وقالوا في أنفسهم، فحكى تعالى ذلك عنهم تنبيهاً على أنهم لما استصعبوا ذلك دل استصعابهم على أنهم غير واثقين بأحوالهم‏.‏

‏{‏قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى‏}‏ تقدم الكلام على كون متاع الدنيا قليلاً في قوله‏:‏ ‏{‏متاع قليل‏}‏ وإنما قل‏:‏ لأنه فان، ونعيم الآخرة مؤبد، فهو خير لمن اتقى الله وامتثل أمره في ما أحب، وفي ما كان شاقاً من قتال وغيره‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي وابن كثير‏:‏ ولا يظلمون بالياء، وباقي السبعة بالتاء على الخطاب، وهو التفات أي‏:‏ لا تنقصون من أجور أعمالكم ومشاق التكاليف أدنى شيء، فلا ترغبوا عن الأجر‏.‏

‏{‏أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة‏}‏ أي‏:‏ هذا التأخر الذي سألوه لا فائدة فيه، لأنه لا منجي من الموت سواء أكان بقتل أم بغيره، فلا فائدة في خور الطبع وحب الحياة‏.‏ وتحتمل هذه الجملة أن يكون ذلك تحت معمول قل، ويحتمل أن يكون إخباراً من الله مستأنفاً بأنه لا ينجو من الموت أحد‏.‏ والبروج هنا القصور في الأرض، قاله‏:‏ مجاهد، وابن جريج، والجمهور‏.‏ أو القصور من حديد، روي عن ابن عباس‏.‏ أو قصور في سماء الدنيا مبنية قاله‏:‏ السدّي‏.‏ أو الحصون والآكام والقلاع قاله‏:‏ ابن عباس‏.‏ أو البيوت التي تكون فوق الحصون قاله‏:‏ بعضهم‏.‏ أو بروج السماء التي هي منازل القمر قاله‏:‏ الربيع أنس، والثوري، وحكاه ابن القاسم عن مالك‏.‏ وقال‏:‏ ألا ترى إلى قوله‏:‏ ‏{‏والسماء ذات البروج‏}‏ وجعل فيها بروجاً ‏{‏ولقد جعلنا في السماء بروجاً‏}‏ وقال زهير‏:‏

ومن هاب أسباب المنية يلقها *** ولو رام أسباب السماء بسلم

مشيدة مطولة قاله‏:‏ أبو مالك، ومقاتل، وابن قتيبة، والزجاج‏.‏ أو مطلية بالشيد قاله‏:‏ أبو سليمان الدمشقي‏.‏ أو حصينة قاله‏:‏ ابن عباس، وقتادة‏.‏ ومن قال‏:‏ أنها بروج في السماء فلأنها بيض شبهها بالمبيض بالشيد، ولهذا قال الذي هي قصور بيض في السماء مبنية‏.‏

والجزم في يدرككم على جواب الشرط، وأينما تدل على العموم، وكأنه قيل‏:‏ في أي مكان تكونون فيه أدرككم الموت‏.‏ ولو هنا بمعنى إن، وجاءت لدفع توهم النجاة من الموت بتقدير‏:‏ إن لو كانوا في بروج مشيدة، ولإظهار استقصاء العموم في أينما‏.‏

وقرأ طلحة بن سليمان‏:‏ يدرككم برفع الكافين، وخرجه أبو الفتح‏:‏ على حذف فاء الجواب أي‏:‏ فيدرككم الموت وهي قراءة ضعيفة‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ ويجوز أن يقال‏:‏ حمل على ما يقع موقع أينما تكونوا، وهو‏:‏ أينما كنتم كما حمل ولا ناعب على ما يقع موقع ليسوا مصلحين، وهو ليسوا بمصلحين‏.‏ فرفع كما رفع زهير يقول‏:‏ لا غائب ما لي ولا حرم‏.‏ وهو قول نحوي سيبويهي انتهى‏.‏ ويعني‏:‏ أنه جعل يدرككم ارتفع لكون أينما تكونوا في معنى أينما كنتم، بتوهم أنه نطق به‏.‏ وذلك أنه متى كان فعل الشرط ماضياً في اللفظ فإنه يجوز في المضارع بعده وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ الجزم على الجواب‏.‏ والثاني‏:‏ الرفع‏.‏ وفي توجيه الرفع خلاف، الأصح أنّه ليس الجواب، بل ذلك على التقديم والتأخير، والجواب محذوف‏.‏ وإذا حذف الجواب فلا بد أن يكون فعل الشرط ماضي اللفظ، فتخريج هذه القراءة على هذا يأباه كون فعل الشرط مضارعاً‏.‏ وحمله على ولا ناعب ليس بجيد، لان ولا ناعب عطف على التوهم، والعطف على لتوهم لا ينقاس‏.‏ وقال الزمخشري أيضاً ويجوز أن يتصل بقوله‏:‏ ‏{‏ولا تظلمون فتيلاً‏}‏ أي‏:‏ لا تنقصون شيئاً مما كتب من آجالكم أينما تكونوا في ملاحم حروب أو غيرها‏.‏ ثم ابتدأ بقوله‏:‏ يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة، والوقف على هذا الوجه أينما تكونوا انتهى كلامه‏.‏ وهذا تخريج ليس بمستقيم، لا من حيث المعنى، ولا من حيث الصناعة النحوية‏.‏ أما من حيث المعنى فإنه لا يناسب أن يكون متصلاً بقوله‏:‏ ولا تظلمون فتيلاً، لأن ظاهر انتفاء الظلم إنما هو في الآخرة لقوله‏:‏ ‏{‏قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى‏}‏ وأما من حيث الصناعة النحوية فإنه على ظاهر كلامه يدل على أنَّ أينما تكونوا متعلق بقوله‏:‏ ولا تظلمون، ما فسره من قوله أي‏:‏ لا تنقصون شيئماً مما كتب من آجالكم أينما تكونوا في ملاحم الحرب أو غيرها، وهذا لا يجوز، لأن أينما اسم شرط، فالعامل فيه إنما هو فعل الشرط بعده‏.‏ ولأن اسم الشرط لا يتقدم عليه عامله، فلا يمكن أن يعمل فيه، ولا تظلمون‏.‏ بل إذا جاء نحو‏:‏ اضرب زيداً متى جاء، لا يجوز أن يكون الناصب لمتى اضرب‏.‏ فإن قال‏:‏ يقدّر له جواب محذوف يدل عليه ما قبله وهو‏:‏ ولا تظلمون، كما يقدر في اضرب زيداً‏:‏ متى جاء، فالتقدير‏:‏ أينما تكونوا فلا تظلمون فتيلاً أي‏:‏ فلا ينقص شيء من آجالكم وحذفه لدلالة ما قبله عليه‏.‏ قيل له‏:‏ لا يحذف الجواب إلا إذا كان فعل الشرط بصيغة الماضي، وفعل الشرط هنا مضارع‏.‏ تقول العرب‏:‏ أنت ظالم إن فعلت، ولا تقل أنت ظالم إن تفعل‏.‏

وقرأ نعيم بن ميسرة‏:‏ مشيدة بكسر الياء وصفاً لها بفعل فاعلها مجازاً، كما قال‏:‏ قصيدة شاعرة، وإنما الشاعر ناظمها‏.‏

‏{‏وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ الضمير للمنافقين واليهود، وقال الحسن‏:‏ للمنافقين، وقال السدي‏:‏ لليهود‏.‏ والظاهر أنه للمنافقين لأن مثل هذا لا يصدر من مؤمن، واليهود لم يكونوا في طاعة الإسلام حتى يكتب عليهم القتال‏.‏ وروي عن ابن عباس‏:‏ أن الحسنة هنا هي السلامة والأمن، والسيئة الأمراض والخوف‏.‏ وعنه أيضاً‏:‏ الحسنة الخصب والرخاء، والسيئة الجدب والغلاء‏.‏ وعنه أيضاً‏:‏ الحسنة السراء، والسيئة الضراء‏.‏ وقال الحسن وابن زيد‏:‏ الحسنة النعمة والفتح والغنيمة يوم بدر، والسيئة البلية والشدة والقتل يوم أحد‏.‏ وقيل‏:‏ الحسنة الغنى، والسيئة الفقر‏.‏ والمعنى‏:‏ أن هؤلاء المنافقين إذا أصابتهم حسنة نسبوها إلى الله تعالى، وأنها ليست باتباع الرسول، ولا الإيمان به، وإنّ تصبهم سيئة أضافوها إلى الرسول وقالوا‏:‏ هي بسببه، كما جاء في قوم موسى‏:‏ ‏{‏وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه‏}‏ وفي قوم صالح‏:‏ ‏{‏قالوا اطيرنا بك وبمن معك‏}‏ وروى جماعة من المفسرين أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة قال اليهود والمنافقون‏:‏ ما زلنا نعرف النقص في ثمارنا ومزارعنا مذ قدم علينا هذا الرجل وأصحابه‏.‏

‏{‏قل كل من عند الله‏}‏ أمر الله نبيه أن يخبرهم أنَّ كلاً من الحسنة والسيئة إنما هو من عند الله، لا خالق ولا مخترع سواه، فليس الأمر كما زعمتم، فالله تعالى وحده هو النافع الضار، وعن إرادته تصدر جميع الكائنات‏.‏

‏{‏فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً‏}‏ هذا استفهام معناه التعجب من هذه المقالة، وكيف ينسب ما هو من عند الله لغير الله‏؟‏ أي أن هؤلاء كانوا ينبغي لهم أن يكونوا ممن يتفهم الأشياء، ويتوقفون عما يريدون أن يقولوا حتى يعرضوه على عقولهم‏.‏ وبالغ تعالى في قلة فهمهم وتعلقهم، حتى نفى مقاربة الفقه، ونفى المقاربة أبلغ من نفي الفعل‏.‏ وهذا النوع من الاستفهام يتضمن إنكار ما استفهم عن علته، وأنه ينبغي أن يوجد مقابله‏.‏ فإذا قيل‏:‏ ما لك قائماً، فهو إنكار للقيام، ومتضمن أن يوجد مقابله‏.‏ وإذا قيل‏:‏ ما لك لا تقوم، فهو إنكار لترك القيام، ومتضمن أن يوجد مقابله‏.‏ قيل في قوله‏:‏ حديثاً، أي القرآن لو تدبروه لبصرهم في الدين، وأورثهم اليقين‏.‏ وقال ابن بحر‏:‏ لامهم على ترك التفقه فيما أعلمهم به وأدبهم في كتابه‏.‏ ووقف أبو عمرو والكسائي على قوله‏:‏ فما، ووقف الباقون على اللام في قوله‏:‏ فمال، اتباعاً للخط‏.‏ ولا ينبغي تعمد ذلك، لأن الوقف على فما فيه قطع عن الخبر، وعلى اللام فيه قطع عن المجرور دون حرف الجر، وإنما يكون ذلك لضرورة انقطاع النفس‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏79‏]‏

‏{‏مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ‏(‏79‏)‏‏}‏

‏{‏ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك‏}‏ الخطاب عام كأنه قيل‏:‏ ما أصابك يا إنسان‏.‏ وقيل‏:‏ للرسول صلى الله عليه وسلم، والمراد غيره‏.‏ وقال ابن بحر‏:‏ هو خطاب للفريق في قوله‏:‏ ‏{‏إذا فريق منهم‏}‏ قال‏:‏ ولما كان لفظ الفريق مفرداً، صح أن يخبر عنه بلفظ الواحد تارة، وبلفظ الجمع تارة‏.‏ وعليه قوله‏:‏

تفرق أهلاً نابثين فمنهم *** فريق أقام واستقل فريق

هذا مقتضى اللفظ‏.‏ وأما المعنى بالناس خاصتهم وعامتهم مراد بقوله‏:‏ ما أصابك من حسنة‏.‏ وقال ابن عباس، وقتادة، والحسن، وابن زيد، والربيع، وأبو صالح‏:‏ معنى الآية أنه أخبر تعالى على سبيل الاستئناف والقطع أنَّ الحسنة منه بفضله، والسيئة من الإنسان بذنوبه، ومن الله بالخلق والاختراع‏.‏ وفي مصحف ابن مسعود‏:‏ فمن نفسك، وإنما قضيتها عليك، وقرأ بها ابن عباس‏.‏ وحكى أبو عمرو‏:‏ أنها في مصحف ابن مسعود، وأنا كتبتها‏.‏ وروي أن ابن مسعود وأبياً قرآ‏:‏ وأنا قدرتها عليك‏.‏ ويؤيد هذا التأويل أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم معناها‏:‏ «أن ما يصيب الإنسان من المصائب فإنما هو عقوبة ذنوبه» وقالت طائفة‏:‏ معنى الآية هو على قول محذوف تقديره‏:‏ فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً‏؟‏ يقولون‏:‏ ما أصابك من حسنة الآية‏.‏ والابتداء بقوله‏:‏ ‏{‏وأرسلناك‏}‏ والوقف على قوله‏:‏ فمن نفسك‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ ما أصابك من حسنة فمن الله، هو استئناف إخبار من الله أنَّ الحسنة منه وبفضله‏.‏ ثم قال‏:‏ وما أصابك من سيئة فمن نفسك، على وجه الإنكار والتقدير‏:‏ وألف الاستفهام محذوفة من الكلام كقوله‏:‏ ‏{‏وتلك نعمة تمنها عليّ‏}‏ أي‏:‏ وتلك نعمة‏.‏ وكذا ‏{‏بازغاً قال‏:‏ هذا ربي‏}‏ على أحد الأقوال، والعرب تحذف ألف الاستفهام قال أبو خراش‏:‏

رموني وقالوا يا خويلد لم ترع *** فقلت وأنكرت الوجوه هم هم

أي‏:‏ أهم هم‏.‏ وحكى هذا الوجه عن ابن الأنباري‏.‏ وروى الضحاك عن ابن عباس أن الحسنة هنا ما أصاب المسلمين من الظفر والغنيمة يوم بدر، والسيئة ما نكبوا به يوم أحد‏.‏ وعن عائشة رضي الله عنها‏:‏ «ما من مسلم يصيبه وصب ولا نصب، حتى الشوكة يشاكها، حتى انقطاع شسع نعله إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر»‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ونعفوا عن كثير‏}‏

وقد تجاذبت القدرية وأهل السنة الدلالة من هذه الآيات على مذاهبهم، فتعلقت القدرية بالثانية وقالوا‏:‏ ينبغي أن لا ينسب فعل السيئة إلى الله بوجه، وجعلوا الحسنة والسيئة في الأولى بمعنى الخصب والجدب والغنى والفقر‏.‏ وتعلق أهل السنة بالأولى وقالوا‏:‏ ‏{‏قل كل من عند الله‏}‏ عام يدل على أن الأفعال الظاهرة من العباد هي من الله تعالى، وتأولوا الثانية وهي‏:‏ مسألة يبحث عنها في أصول الدين‏.‏

وقال القرطبي‏:‏ هذه الآيات لا يتعلق بها إلا الجهال من الفريقين، لأنّهم بنوا ذلك على أنّ السيئة هي المعصية، وليست كذلك‏.‏ والقدرية قالوا‏:‏ ما أصابك من حسنة أي‏:‏ من طاعة فمن الله، وليس هذا اعتقادهم، لأن اعتقادهم الذي بنوا عليه مذاهبهم‏:‏ أنّ الحسنة فعل المحسن، والسيئة فعل المسيء‏.‏ وأيضاً فلو كان لهم فيه حجة لكان يقول‏:‏ ما أصبت من حسنة وما أصبت من سيئة، لأنه الفاعل للحسنة والسيئة جميعاً، فلا تضاف إليه إلا بفعله لهما لا بفعل غيره، نص على هذا الإمام أبو الحسن شيث بن ابراهيم بن محمد بن حيدرة في كتابه المسمى بحزّ العلاصم في إفحام المخاصم‏.‏

وقال الراغب‏:‏ إذا تؤمّل مورد الكلام وسبب النزول فلا تعلق لأحد الفريقين بالآية على وجه يثلج صدراً أو يزيل شكاً، إذ نزلت في قوم أسلموا ذريعة إلى غنى وخصب ينالونه، وظفر يحصلونه، فكان أحدهم إذا نابتة نائبة، أو فاته محبوب، أو ناله مكروه، أضاف سببه إلى الرسول متطيراً به‏.‏ والحسنة هنا والسيئة كهما في‏:‏ ‏{‏وبلوناهم بالحسنات والسيئات‏}‏ وفي ‏{‏فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه‏}‏ انتهى‏.‏ وقد طعن بعض الملاحدة فقال‏:‏ هذا تناقض، لأنه قال‏:‏ قل كل من عند الله وقال عقيبه‏:‏ ما أصابك من حسنة الآية‏.‏ وقال الراغب‏:‏ وهذا ظاهر الوهي، لأن الحسنة والسيئة من الألفاظ المشتركة كالحيوان الذي يقع على الإنسان والفرس والحمار‏.‏ ومن الأسماء المختلفة كالعين‏.‏ فلو أنّ قائلاً قال‏:‏ الحيوان المتكلم والحيوان غير المتكلم، وأراد بالأول الإنسان، وبالثاني الفرس أو الحمار، لم يكن متناقضاً‏.‏ وكذلك إذا قال‏:‏ العين في الوجه، والعين ليس في الوجه، وأراد بالأولى الجارحة، وبالثانية عين الميزان أو السحاب‏.‏ وكذلك الآية أريد بهما في الأولى غير ما أريد في الثانية كما بيناه انتهى‏.‏

والذي اصطلح عليه الراغب بالمشتركة وبالمختلفة ليس اصطلاح الناس اليوم، لأن المشترك هو عندهم كالعين، والمختلفة هي المتباينة‏.‏ والراغب جعل الحيوان من الأسماء المشتركة وهو موضوع للقدر المشترك، وجعل العين من الأسماء المختلفة وهو في الاصطلاح اليوم من المشترك‏.‏ قال بعض أهل العلم‏:‏ والفرق بين من عند الله، ومن الله‏:‏ أنَّ من عند الله أعم‏.‏ يقال‏:‏ فيما كان برضاه وبسخطه، وفيما يحصل، وقد أمر به ونهى عنه، ولا يقال‏:‏ هو من الله إلا فيما كان برضاه وبأمره، وبهذا النظر قال عمر‏:‏ إنْ أصبت فمن الله، وإن أخطأت فمن الشيطان انتهى‏.‏ وعنى بالنفس هنا المذكورة في قوله‏:‏ ‏{‏إن النفس لأمارة بالسوء‏}‏ وقرأت عائشة رضي الله عنها‏:‏ فمن نفسك بفتح الميم ورفع السين، فمن استفهام معناه الإنكار أي‏:‏ فمن نفسك حتى ينسب إليها فعل المعنى ما للنفس في الشيء فعل‏.‏

‏{‏وأرسلناك للناس رسولاً‏}‏ أخبر تعالى أنه قد أزاح عللهم بإرساله، فلا حجة لهم لقوله‏:‏ ‏{‏وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً‏}‏ وللناس عام عربهم وعجمهم، وانتصب رسولاً على الحال المؤكدة‏.‏ وجوّز أن يكون مصدراً بمعنى إرسالاً، وهو ضعيف‏.‏

‏{‏وكفى بالله شهيداً‏}‏ أي مطلعاً على ما يصدر منك ومنهم، أو شهيداً على رسالتك‏.‏ ولا ينبغي لمن كان الله شاهده إلا أن يطاع ويتبع، لأنه جاء بالحق والصدق، وشهد الله له بذلك‏.‏

وقد تضمنت هذه الآيات من البيان والبديع‏:‏ الاستعارة في‏:‏ يشرون الحياة الدنيا بالآخرة، وفي‏:‏ فسوف نؤتيه أجراً عظيماً لما يناله من النعيم في الآخرة، وفي‏:‏ سبيل الله، وفي‏:‏ سبيل الطاغوت، استعار الطريق للاتباع وللمخالفة وفي‏:‏ كفوا أيديكم أطلق كف اليد الذي هو مختص بالإجرام على الإمساك عن القتال‏.‏ والاستفهام الذي معناه الاستبطاء والاستبعاد في‏:‏ وما لكم لا تقاتلون‏.‏ والاستفهام الذي معناه التعجب في‏:‏ ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا‏.‏ والتجوز بفي التي للوعاء عن دخولهم في‏:‏ الجهاد‏.‏ والالتفات في‏:‏ فسوف نؤتيه في قراءة النون‏.‏ والتكرار في‏:‏ سبيل الله، وفي‏:‏ واجعل لنا من لدنك، وفي‏:‏ يقاتلون، وفي‏:‏ الشيطان، وفي‏:‏ وإن تصبهم، وفي‏:‏ ما أصابك وفي‏:‏ اسم الله‏.‏ والطباق اللفظي في‏:‏ الذين آمنوا والذين كفروا‏.‏ والمعنوي في‏:‏ سبيل الله طاعة وفي سبيل الطاغوت معصية‏.‏ والاختصاص في‏:‏ إن كيد الشيطان كان ضعيفاً، وفي‏:‏ والآخرة خير لمن اتقى‏.‏ والتجوز بإسناد الفعل إلى غير فاعله في‏:‏ يدرككم الموت، وفي‏:‏ إن تصبهم، وفي‏:‏ ما أصابك‏.‏ والتشبيه في‏:‏ كخشية‏.‏ وإيقاع أفعل التفضيل حيث لا مشاركة في‏:‏ خير لمن اتقى‏.‏ والتجنيس المغاير في‏:‏ يخشون وكخشية‏.‏ والحذف في مواضع‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏80- 86‏]‏

‏{‏مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ‏(‏80‏)‏ وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ‏(‏81‏)‏ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ‏(‏82‏)‏ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏83‏)‏ فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا ‏(‏84‏)‏ مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا ‏(‏85‏)‏ وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا ‏(‏86‏)‏‏}‏

التبييت قال الأصمعي وأبو عبيدة وأبو العباس‏:‏ كل أمر قضي بليل، قيل‏:‏ قد بيت‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ كل أمر مكر فيه أو خيض بليل فقد بيت‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

أتوني فلم أرض ما بيتوا *** وكانوا أتوني بأمر نكر

وقال الأخفش‏:‏ العرب تقول للشيء إذا قدر‏:‏ بيت‏.‏ وقال أبو رزين‏:‏ بيت ألف‏.‏ وقيل‏:‏ هيئ وزور‏.‏ وقيل‏:‏ قصد، ومنه قول الشاعر‏:‏

لما تبيتنا أخا تميم *** أعطى عطاء اللحز اللئيم

أي‏:‏ قصدنا‏.‏ وقيل‏:‏ التبييت التبديل بلغة طيئ، قال شاعرهم‏:‏

وتبييت قولي عند المليك قاتلك الله عبداً كفوراً *** التدبر‏:‏ تأمل الأمر والنظر في إدباره وما يؤول إليه في عاقبته، ثم استعمل في كل تأمل‏.‏ والدبر‏:‏ المال الكثير، سمي بذلك لأنه يبقى للإعقاب وللإدبار قاله‏:‏ الزجاج وغيره‏.‏

الإذاعةُ‏:‏ إظهار الشيء وإفشاؤه يقال‏:‏ ذاع، يذيع، وأذاع، ويتعدى بنفسه وبالباء، فيكون إذ ذاك أذاع في معنى الفعل المجرّد‏.‏ قال أبو الأسود‏:‏

أذاعوا به في الناس حتى كأنه *** بعلياء نار أوقدت بثقوب

الاستنباط‏:‏ الاستخراج، والنبط الماء يخرج من البئر أول ما تحفر، والانباط والاستنباط إخراجه‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

نعم صادقاً والفاعل القائل الذي *** إذا قال قولاً انبط الماء في الثرى

وقال ابن الأعرابي‏:‏ يقال للرّجل إذا كان بعيد العز والمنعة ما يجد عدوه له‏:‏ نبطاً‏.‏ قال كعب‏:‏

قريب تراه لا ينال عدوّه *** له نبطاً آبى الهوان قطوب

والنبط الذين يستخرجون المياه والنبات من الأرض‏.‏ وقال الفراء‏:‏ نبط مثل استنبط، ونبط الماء ينبُط بضم الباء وفتحها‏.‏ التحريض‏:‏ الحث‏.‏ التنكيل‏:‏ الأخذ بأنواع العذاب وترديده على المعذب، وكأنه مأخوذ من النكل وهو‏:‏ القيد‏.‏ الكفل‏:‏ النصيب، والنصيب في الخير أكثر استعمالاً‏.‏ والكفل في الشر أكثر منه في الخير‏.‏ المقيت‏:‏ المقتدر‏.‏ قال الزبير بن عبد المطلب‏:‏

وذي ضغن كففت النفس عنه *** وكان على إساءته مقيتاً

أي مقتدراً‏.‏ وقال السموءل‏:‏

ليت شعري واشعرت إذا ما *** قربوها منشورة ودعيت

أتى الفصل ثم عليّ إذا حو *** سبت أني على الحساب مقيت

وقال أبو عبيدة‏:‏ المقيت الحاضر‏.‏ وقال ابن فارس‏:‏ المقيت المقتدر، والمقيت‏:‏ الحافظ والشاهد‏.‏ وقال النحاس‏:‏ هو مشتق من القوت، والقوت مقدار ما يحفظ به الإنسان من التلف‏.‏ التحية قال عبد الله بن إدريس‏:‏ هي الملك وأنشد‏:‏

أوّم بها أبا قابوس حتى *** أنيخ على تحيته بجندي

وقال الأزهري‏:‏ التحية بمعنى الملك، وبمعنى البقاء، ثم صارت بمعنى السلامة‏.‏ انتهى‏.‏ ووزنها تفعلة، وليس الإدغام في هذا الوزن واجباً على مذهب المازني، بل يجوز الإظهار كما قالوا‏:‏ أعيية بالإظهار، وأعية بالإدغام في جمع عيي‏.‏ وذهب الجمهور إلى أنه يجب الإدغام في تحية، والكلام على المذهبين مذكور في كتب النحو‏.‏

‏{‏من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً‏}‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏

«من أحبني فقد أحب الله» فاعترضت اليهود فقالوا‏:‏ هذا محمد يأمر بعبادة الله، وهو في هذا القول مدع للربوبية فنزلت‏.‏ وفي رواية‏:‏ قال المنافقون لقد قارب الشرك‏.‏ وفي رواية‏:‏ قالوا ما يريد هذا الرجل إلا أن يتخذ رباً كما اتخذت النصارى عيسى‏.‏ وتعلق الطاعتين لأنّه لا يأمر إلا بما أمر الله به، ولا ينهى إلا عن ما نهى الله عنه، فكانت طاعته في ذلك طاعة الله‏.‏ ومن تولى بنفاق أو أمر فما أرسلناك هذا التفات، إذ لو جرى على الرسول لكان فما أرسله‏.‏ والحافظ هنا المحاسب على الأعمال، أو الحافظ للأعمال، أو الحافظ من المعاصي، أو الحافظ عن التولي، أو المسلط من الحفاظ أقوال‏.‏ وتتضمن هذه الآية الإعراض عمن تولى، والترك رفقاً من الله، وهي قبل نزول القتال‏.‏

‏{‏ويقولون طاعة‏}‏ نزلت في المنافقين باتفاق‏.‏ أي‏:‏ أمرتهم بشيء قالوا طاعة، أي‏:‏ أمرنا طاعة، أو منا طاعة‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ ويجوز النصب بمعنى أطعناك طاعة، وهذا من قول المرتسم سمعاً وطاعة، وسمع وطاعة، ونحوه قول سيبويه‏.‏ وسمعنا بعض العرب الموثوق بهم يقال له‏:‏ كيف أصبحت‏؟‏ فيقول‏:‏ حمداً لله وثناء عليه، كأنه قال‏:‏ أمري وشأني حمد الله‏.‏ ولو نصب حمد الله وثناء عليه كان على الفعل، والرفع يدل على ثبات الطاعة واستقرارها انتهى‏.‏ ولا حاجة لذكر ما لم يقرأ به ولا لتوجيهه ولا لتنظيره بغيره، خصوصاً في كتابه الذي وضعه على الاختصار لا على التطويل‏.‏

‏{‏فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول‏}‏ أي إذا خرجوا من عندك رووا وسووا أي‏:‏ طائفة منهم غير الذي تقوله لك يا محمد من إظهار الطاعة، وهم في الباطن كاذبون عاصون، فعلى هذا الضمير في تقول عائد على الطائفة، وهو قول ابن عباس‏.‏ وقيل‏:‏ يعود على الرسول أي‏:‏ غير الذي تقوله وترسم به يا محمد، وهو الخلاف والعصيان المشتمل عليه بواطنهم‏.‏ ويؤيد هذا التأويل قراءة عبد الله بيت مبيت منهم يا محمد‏.‏ وقرأ يحيى بن يعمر يقول‏:‏ بالياء، فيحتمل أن يكون الضمير للرسول، ويكون التفاتاً إذ خرج من ضمير الخطاب في من عندك، إلى ضمير الغيبة‏.‏ ويحتمل أن يعود على الطائفة، لأنها في معنى القوم أو الفريق، وخص طائفته بالتبيين لأنه لم يكونوا ليجتمعوا كلهم في دار واحدة، أو لأنه إخبار عن من علم الله أنه يبقى على كفره ونفاقه‏.‏ وأدغم حمزة وأبو عمرو بيت طائفة، وأظهر الباقون‏.‏

‏{‏والله يكتب ما يبيتون‏}‏ أي‏:‏ يكتبه في صحائف أعمالهم حسبما تكتبه الحفظة ليجازوا به‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ يكتبه في كتابه إليك، أي‏:‏ ينزله في القرآن ويعلم به ويطلع على سرهم‏.‏

وقيل‏:‏ يكتب يعلم عبر بالكتابة عن العلم، لأنه من ثمراتها‏.‏

‏{‏فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلاً‏}‏ هذا مؤكد لقوله‏:‏ ‏{‏ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً‏}‏ أي لا تحدث نفسك بالانتقام منهم‏.‏ وليس المعنى فاعرض عن دعوتهم إلى الإيمان وعن وعظهم‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ معنى أعرض عنهم لا تخبر بأسمائهم فيجاهروك بالعداوة بعد المجاملة في القول، ثم أمره بإدامة التوكل عليه، هو ينتقم لك منهم، وهذا أيضاً قبل نزول القتال‏.‏

‏{‏أفلا يتدبرون القرآن‏}‏ قرأ الجمهور‏:‏ يتدبرون بياء وتاء بعدها على الأصل‏.‏ وقرأ ابن محيصن‏:‏ بإدغام التاء في الدال، وهذا استفهام معناه الإنكار أي‏:‏ فلا يتأملون ما نزل عليك من الوحي ولا يعرضون عنه، فإنه في تدبره يظهر برهانه ويسطع نوره ولا يظهر ذلك لمن أعرض عنه ولم يتأمله‏.‏

‏{‏ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً‏}‏ الظاهر أن المضمر في فيه عائد على القرآن، وهذا في علم البيان الاحتجاج النظري، وقوم يسمونه المذهب الكلامي‏.‏ ووجه هذا الدليل أنه ليس من متكلم كلاماً طويلاً إلا وجد في كلامه اختلاف كثير، إما في الوصف واللفظ، وإما في المعنى بتناقض أخبار، أو الوقوع على خلاف المخبر به، أو اشتماله على ما لا يلتئم، أو كونه يمكن معارضته‏.‏ والقرآن العظيم ليس فيه شيء من ذلك، لأنه كلام المحيط بكل شيء مناسب بلاغة معجزة فائتة لقوى البلغاء، وتظافر صدق أخبار، وصحة معان، فلا يقدر عليه إلا العالم بما لا يعلمه أحد سواه‏.‏

قال ابن عطية‏:‏ فإن عرضت لأحد شبهة وظن اختلافاً فالواجب أن يتهم نظره، ويسأل من هو أعلم منه‏.‏ وما ذهب إليه بعض الزنادقة المعاندين من أنّ فيه أحكاماً مختلفة وألفاظاً غير مؤتلفة فقد أبطل مقالتهم علماء الإسلام، وما جاء في القرآن من اختلاف في تفسير وتأويل وقراءة وناسخ ومنسوخ ومحكم ومتشابه وعام وخاص ومطلق ومقيد فليس هو المقصود في الآية، بل هذه من علوم القرآن الدالة على اتساع معانيه، وأحكام مبانيه‏.‏ وذهب الزجاج إلى أنَّ الضمير في فيه عائد على ما يخبره به الله تعالى مما يبيتون ويسرون، والمعنى‏:‏ أنّك تخبرهم به على حد ما يقع، وذلك دليل على أنه من عند الله غيب من الغيوب‏.‏ وفي ذكر تدبر القرآن ردّ على من قال من الرافضة‏:‏ إن القرآن لا يفهم معناه إلا بتفسير الرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏

‏{‏وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به‏}‏ روى مسلم من حديث ابن عباس عن عمر‏:‏ «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما اعتزل نساءه، فدخل عمر المسجد فسمع الناس يقولون‏:‏ طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فسأله‏:‏ أطلقت نساءك‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏

فخرج فنادى‏:‏ ألا إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يطلق نساءه، فنزلت «‏.‏ وكان هو الذي استنبط الأمر، وروى أبو صالح عن ابن عباس‏:‏ أن الرسول كان إذا بعث سرية من السرايا فغلبت، أو غلبت، تحدثوا بذلك وأفشوه ولم يصبروا حتى يكون هو المحدث به، فنزلت‏.‏ والضمير في‏:‏ جاءهم على المنافقين، قاله ابن عباس والجمهور‏.‏ أو على ناس من ضعفة المؤمنين قاله‏:‏ الحسن والزجاج‏.‏ ولم يذكر الزمخشري غيره أو عليهما نقله ابن عطية، أو على اليهود قاله بعضهم‏.‏ والأمر من الأمن أو الخوف فوز السرية بالظفر والغنيمة، أو الخيبة والنكبة، فيبادرون بإفشائه قبل أن يخبر الرسول بذلك‏.‏ أو ما كان ينزل من الوحي بالوعظ بالظفر، أو بتخفيف من جهة الكفار، كان يسر النبي عليه السلام ذلك إليهم فيفشونه، وكان في ذلك مضرّة على المسلمين، أو ما يعزم عليه النبي من الوداعة والأمان لقوم، والخوف الخبر يأتي أنّ قوماً يجمعون للنبي صلى الله عليه وسلم فيخاف المسلمون منهم قاله‏:‏ الزجاج، والماوردي، وأبو سليمان الدمشقي‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ المعنى أنّ المنافقين كانوا يشرئبون إلى سماع ما يسوء النبي صلى الله عليه وسلم في سراياه، فإذا طرأت لهم شبهة أمن للمسلمين، أو فتح عليهم، حقروها وصغروا شأنها انتهى‏.‏ والضمير في به عائد على الأمر، قيل‏:‏ ويجوز أن يعود على الأمن أو الخوف، ووحد الضمير لأن، أو تقتضي أحدهما‏.‏

‏{‏ولو ردوه إلى الرسول وإلى أُولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم‏}‏ أي‏:‏ ولو ردُّوا الأمر الذي بلغهم إلى الرسول وأولي الأمر وهم‏:‏ الخلفاء الأربعة ومن يجري على سننهم، قاله‏:‏ ابن عباس، أو أبو بكر، وعمر خاصة، قاله‏:‏ عكرمة‏.‏ أو أمراء السرايا قاله‏:‏ السدي، ومقاتل، وابن زيد‏.‏ أو العلماء من الصحابة قاله‏:‏ الحسن، وقتادة، وابن جريج‏.‏ والمعنى‏:‏ لو أمسكوا عن الخوض فيما بلغهم، واستقصوا الأمر من الرسول وأولي الأمر، لعلم حقيقة ذلك الأمر الوارد من له بحث ونظر وتجربة، فأخبروهم بحقيقة ذلك، وأنّ الأمر ليس جارياً على أول خبر يطرأ‏.‏

قال الزمخشري‏:‏ هم ناس من ضعفة المسلمين الذين لم تكن فيهم خبرة بالأحوال والاستبطان للأمور، كانوا إذا بلغهم خبر عن سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمن وسلامة أو خوفٍ وخللٍ أذاعوا به، وكانت إذاعتهم مفسدة‏.‏ ولو ردوا ذلك الخبر إلى رسول الله، وإلى أولي الأمر منهم وهم‏:‏ كبار الصحابة البصراء بالأمور، أو الذين كانوا يؤمرون منهم لعلمه، لعلم تدبير ما أخبروا به الذين يستنبطونه أي‏:‏ الذين يستخرجون تدبيره بفطنهم وتجاربهم ومعرفتهم بأمور الحرب ومكايدها‏.‏ وقيل‏:‏ كانوا يقفون من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولي الأمر على أمن ووثوق بالظهور على بعض الأعداء، أو على خوف واستشعار، فيذيعونه فينشر، فيبلغ الأعداء فتعود إذاعتهم مفسدة، ولو ردوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أولي الأمر وفوضوه إليهم، وكانوا كأن لم يسمعوا لعلمه الذين يستنبطون تدبيره كيف يدبرونه، وما يأتون ويدرون فيه‏.‏

وقيل‏:‏ كانوا يسمعون من أفواه المنافقين شيئاً من الخبر عن السرايا مظنوناً غير معلوم الصحة فيذيعونه، فيعود ذلك وبالأعلى المؤمنين‏.‏ ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر، وقالوا‏:‏ نسكت حتى نسمعه منهم، ونعلم هل هو مما يذاع أو لا يذاع‏؟‏ لعلمه الذين يستنبطونه منهم لعلم صحته، وهل هو مما يذيع هؤلاء المذيعون وهم الذين يستنبطونه من الرسول وأولي الأمر أي‏:‏ يتلقونه منهم ويستخرجون علمه من جهتهم انتهى كلامه‏.‏

وهذه كلها تأويلات حسنة، وأجراها على نسق الكلام هذا التأويل الأخير وهو‏:‏ أنّ المعنى إذا طرأ خبر بأمن المسلمين أو خوف، فينبغي أن لايشاع، وأن يردّ إلى الرسول وأولي الأمر، فإنهم يخبرون عن حقيقة الأمر فيعلمه من يسألهم، ويستخرج ذلك من جهتهم، لأنّ ما أخبر به الرسول وأولوا الأمر إذ هم مخبرون عنه حق لا شك فيه‏.‏ وقال أبو بكر الرازي‏:‏ في هذه الآية دلالة على وجوب القول بالقياس واجتهاد الرأي في أحكام الحوادث، لأنه أمر بردّ الحوادث إلى الرسول في حياته إذ كانوا بحضرته، وإلى العلماء بعد وفاته والغيبة عن حضرته، والمنصوص عليه لا يحتاج إلى استنباطه، فثبت بذلك أنَّ من الأحكام ما هو مودع في النص قد كلف الوصول إلى علمه بالاستدلال والاستنباط‏.‏ وطوَّل الرازي في هذه المسألة اعتراضاً وانفصالاً واستقرأ من الآية أحكاماً‏.‏

قال‏:‏ ويدل على بطلان قول القائل بالإمامة‏:‏ لأنه لو كان كل شيء من الأحكام منصوصاً عليه يعرفه الإمام لزال موضع الاستنباط، وسقط الرد إلى أولي الأمر، بل كان الواجب الرّد إلى الإمام الذي يعرف صحة ذلك من باطله من جهة النص‏.‏ وقال الشيخ جمال الدين أبو عبد الله محمد بن سليمان بن النقيب وهو جامع كتاب التحرير والتحبير لأقوال أئمة التفسير ما نصه في ذلك الكتاب‏:‏ وقد لاح لي في هذه الآية أنّ في الكلام حذفاً وتقديماً وتأخيراً وأنَّ هذا الكلام متعلق بالذي قبله مردود إليه، ويكون التقدير‏:‏ أفلا يتدبرون القرآن، ولو تدبروه لعلموا أنه من كلام الله، والمشكل عليهم من متشابهه لو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم، لعلمه الذين يستنبطونه منهم يعني‏:‏ لعلم معنى ذلك المتشابه الذين يستنبطونه منهم من أهل العلم بالكتاب إلا قليلاً، وهو ما ستأثر الله به من علم كتابه ومكنون خطابه‏.‏ ثم قال‏:‏ وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به، والذي حسن لهم ذلك وزينه الشيطان، ثم التفت إلى المؤمنين فقال‏:‏ ‏{‏ولولا فضل الله عليكم‏}‏ الآية وقد أشار إلى شيء من هذا أبو طالب المكي في كتابه المعروف بقوت القلوب، وقال‏:‏ إن قوله‏:‏ ‏{‏إلا قليلاً‏}‏ متصل بقوله ‏{‏لعلمه الذين يستنبطونه منهم‏}‏ وعلى هذا يكون الاستنباط استخراجاً من معنى اللفظ المتشابه بنوع من النظرة والاجتهاد والتفكر انتهى كلامه‏.‏

وهو كما ترى تركيب ونظم غير تركيب القرآن ونظمه، وكثيراً ما يذكر هذا الرجل في القرآن تقديماً وتأخيراً، وأغرب من ذلك أنه يجعله من أنواع علم البيان، وأصحابنا وحذاق النحويين يجعلونه من باب ضرائر الأشعار، وشتان ما بين القولين‏.‏ وقرأ أبو السمال‏:‏ لعلمه بسكون اللام‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وذلك مثل شجر بينهم انتهى‏.‏ وليس مثله لأنّ تسكين علم قياس مطرد في لغة تميم، وشجر ليس قياساً مطرداً، إنما هو على سبيل الشذوذ‏.‏ وتسكين علم مثل التسكين في قوله‏:‏

فإن تبله يضجر كما ضجر بازل *** من الادم دبرت صفحتاه وغاربه

‏{‏ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً‏}‏ هذا خطاب للمؤمنين باتفاق من المتأولين قاله‏:‏ ابن عطية‏.‏ قال‏:‏ والمعنى لولا هداية الله لكم وإرشاده لبقيتم على كفركم وهو اتباع الشيطان‏.‏ وقيل‏:‏ الفضل الرسول‏.‏ وقيل‏:‏ الإسلام‏.‏ وقيل‏:‏ القرآن‏.‏ وقيل‏:‏ في الرحمة أنها الوحي‏.‏ وقيل‏:‏ اللطف‏.‏ وقيل‏:‏ النعمة‏.‏ وقيل‏:‏ التوفيق‏.‏ والظاهر أنّ الاستثناء هو من فاعل اتبعتم‏.‏ قال الضحاك‏:‏ هدى الكل منهم للإيمان، فمنهم من تمكن فيه حتى لم يخطر له قط خاطر شك، ولا عنت له شبهة ارتياب، وذلك هو القليل، وسائر من أسلم من العرب لم يخل من الخواطر، فلولا فضل الله بتجريد الهداية لهم لضلوا واتبعوا الشيطان، ويكون الفضل معيناً أي‏:‏ رسالة محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن، لأن الكل إنما هدي بفضل الله على الإطلاق‏.‏

وقال قوم‏:‏ إلا قليلاً إشارة إلى من كان قبل الإسلام غير متبع للشيطان على ملة إبراهيم، أدركوا بعقولهم معرفة الله ووحدوه قبل أن يبعث الرسول، كزيد بن عمرو بن نفيل أدرك فساد ما عليه اليهود والنصارى والعرب، فوحد الله وآمن به، فعلى هذا يكون استثناء منقطعاً إذ ليس مندرجاً في المخاطبين بقوله‏:‏ لاتبعتم‏.‏

وقال قوم‏:‏ الاستثناء إنما هو من الاتباع، فقدره الزمخشري‏:‏ إلا اتباعاً قليلاً، فجعله مستثنى من المصدر الدال عليه الفعل وهو لاتبعتم‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ في تقدير أن يكون استثناء من الاتباع قال‏:‏ أي لاتبعتم الشيطان كلكم إلا قليلاً من الأمور كنتم لا تتبعونه فيها، ففسره في الاستثناء بالمتبع فيه، فيكون استثناء من المتبع فيه المحذوف لا من الاتباع، ويكون استثناء مفرّعاً، والتقدير‏:‏ لاتبعتم الشيطان في كل شيء إلا قليلاً من الأشياء فلا تتبعونه فيه‏.‏ فإن كان ابن عطية شرح من حيث المعنى فهو صحيح، لأنه يلزم من الاستثناء الاتباع القليل أن يكون المتبع فيه قليلاً، وإن كان شرح من حيث الصناعة النحوية فليس بجيد، لأن قوله‏:‏ إلا اتباعاً قليلاً، لا يرادف إلا قليلاً من الأمور كنتم لا تتبعونه فيها‏.‏

وقال قوم‏:‏ قوله إلا قليلاً عبارة عن العدم، يريد‏:‏ لاتبعتم الشيطان كلكم‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا قول قلق، وليس يشبه ما حكى سيبويه من قولهم‏:‏ أرض قلما تنبت كذا، بمعنى لا تنبته‏.‏ لأن اقتران القلة بالاستثناء يقتضي حصولها، ولكن ذكره الطبري انتهى‏.‏ وهذا الذي ذكره ابن عطية صحيح، ولكن قد جوزه هو في قوله‏:‏ ‏{‏ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلاً‏}‏ ولم يقلق عنده هناك ولا رده، وقد رددناه عليه هناك فيطالع ثمة‏.‏

وقيل‏:‏ إلا قليلاً مستثنى من قوله‏:‏ أذاعوا به، والتقدير‏:‏ أذاعوا به إلا قليلاً، قاله‏:‏ ابن عباس وابن زيد، واختاره‏:‏ الكسائي، والفراء، وأبو عبيد، وابن حرب، وجماعة من النحويين، ورجحه الطبري‏.‏ وقيل‏:‏ مستثنى من قوله‏:‏ لعلمه الذين يستنبطونه منهم، قاله‏:‏ الحسن، وقتادة، واختاره ابن عيينة‏.‏ وقال مكي‏:‏ ولولا فضل الله عليكم أي‏:‏ رحمته ونعمته إذ عافاكم مما ابتلى به هؤلاء المنافقين الذين وصفهم بالتبييت، والخلاف لاتبعتم الشيطان هو خطاب للذين قال لهم‏:‏ ‏{‏خذوا حذركم فانفروا ثبات‏}‏ وقيل‏:‏ الخطاب عام، والقليل المستثنى هم أمة الرسول، لأنهم قليل بالنسبة إلى الكفار‏.‏ وفي الحديث الصحيح‏:‏ «ما أنتم إلا كالرقمة البيضاء في الثور الأسود»

‏{‏فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين‏}‏ قيل‏:‏ نزلت في بدر الصغرى‏.‏ دعا الناس إلى الخروج، وكان أبو سفيان وعادَ رسول الله صلى الله عليه وسلم اللقاء فيها، فكره بعض الناس أن يخرجوا فنزلت‏.‏ فخرج وما معه إلا سبعون لم يلو على أحد، ولو لم يتبعه أحد لخرج وحده‏.‏

ومناسبة هذه الآية هي‏:‏ أنه لما ذكر في الآيات قبلها تثبيطهم عن القتال، واستطرد من ذلك إلى أنَّ الموت يدرك كل أحد ولو اعتصم بأعظم معتصم، فلا فائدة في الهرب من القتال، وأتبع ذلك بما أتبع من سوء خطاب المنافقين للرسول عليه السلام، وفعلهم معه من إظهار الطاعة بالقول وخلافها بالفعل، وبكتهم في عدم تأملهم ما جاء به الرسول من القرآن الذي فيه كتب عليهم القتال، عاد إلى أمر القتال‏.‏ وهكذا عادة كلام العرب تكون في شيء ثم تستطرد من ذلك إلى شيء آخر له به مناسبة وتعلق، ثم تعود إلى ذلك الأول‏.‏

والفاء هنا عاطفة جملة كلام على جملة كلام يليه، ومن زعم أنّ وجه العطف بالفاء هو أن يكون متصلاً بقوله‏:‏ ‏{‏وما لكم لا تقاتلون‏}‏ أو بقوله‏:‏ ‏{‏فسوف يؤتيه أجراً عظيماً‏}‏ وهو محمول على المعنى على تقدير شرط أي‏:‏ إن أردت الفوز فقاتل‏.‏ أو معطوفة على قوله‏:‏ ‏{‏فقاتلوا أولياء الشيطان‏}‏ فقد أبعد‏.‏ وظاهر الأمر أنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وحده، ويؤكده‏:‏ لا تكلف إلا نفسك‏.‏ وحمله الزمخشري على تقدير شرط، قال‏:‏ أي إن أفردوك وتركوك وحدك لا تكلف إلا نفسك وحدها أن تقدمها للجهاد، فإنّ الله هو ناصرك لا الجنود، فإن شاء نصرك وحدك كما ينصرك وحولك الألوف انتهى‏.‏

وسبقه إليه الزجاج قال‏:‏ أمره بالجهاد وإن قاتل وحده، لأنه ضمن له النصرة‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ لم نجد قط في خبر أنّ القتال فرض على النبي دون الأمة مرة ما، فالمعنى والله أعلم أنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم في اللفظ، وهو مثال ما يقال لكل واحد في خاصة نفسه‏:‏ أي‏:‏ أنت يا محمد وكل واحد من أمتك القول له فقاتل في سبيل الله، ولهذا ينبغي لكل مؤمن أن يستشعر، أن يجاهد ولو وحده، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لأقاتلنهم حتى تنفرد سالفتي» وقول أبي بكر وقت الردة‏:‏ ولو خالفتني يميني لجاهدتها بشمالي‏.‏

ومعنى لا تكلف إلا نفسك‏:‏ أي‏:‏ لا تكلف في القتال إلا نفسك، فقاتل ولو وحدك‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى إلا طاقتك ووسعك‏.‏ والنفس يعبر بها عن القوّة يقال‏:‏ سقطت نفسه أي قوته‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ لا تكلف خبراً مبنياً للمفعول، قالوا‏:‏ والجملة في موضع الحال، ويجوز أن يكون إخباراً من الله لنبيه، لا حالاً شرع له فيها أنه لا يكلف أمر غيره من المؤمنين، إنما يكلف أمر نفسه فقط‏.‏ وقرئ‏:‏ لا نكلف بالنون وكسر اللام، ويحتمل وجهي الإعراب‏:‏ الحال والاستئناف‏.‏ وقرأ عبد الله بن عمر‏:‏ لا تكلف بالتاء وفتح اللام، والجزم على جواب الأمر‏.‏ وأمره تعالى بحث المؤمنين على القتال، وتحريك هممهم إلى الشهادة‏.‏

‏{‏عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا‏}‏ قال عكرمة وغيره‏:‏ عسى من الله واجبه، ومن البشر متوقعة مرجوّة‏.‏ والذين كفروا‏:‏ هم كفار قريش، وقد كف الله تعالى بأسهم، وبدا لأبي سفيان ترك القتال‏.‏ وقال‏:‏ هذا عام مجدب، وما كان معهم إلا السويق، ولا يلقون إلا في عام مخصب فرجع بهم‏.‏ وقيل‏:‏ كف البأس يكون عند نزول عيسى ابن مريم عليه السلام‏.‏ وقيل‏:‏ ذلك يوم الحديبية‏.‏ وقيل‏:‏ هي فيمن ضربت عليهم الجزية‏.‏ والجمهور على ما قدمناه من أنّ ذلك كان عند خروجهم إلى بدر الصغرى‏.‏ والظاهر في هذا أنه لا يتقيد كف بأس الذين كفروا بما ذكروا، والتخصيص بشيء يحتاج إلى دليل‏.‏

‏{‏والله أشدّ بأساً وأشدّ تنكيلاً‏}‏ هذا تقوية لقلوب المؤمنين، وأنّ بأس الله أشدّ من بأس الكفار‏.‏ وقد رجى كف بأسهم، ثم ذكر ما أعد لهم من النكال، وأن الله تعالى هو أشد عقوبة‏.‏ فذكر قوّته وقدرته عليهم، وما يؤول إليه أمرهم من التعذيب‏.‏ قال الحسن وقتادة‏:‏ وأشد تنكيلاً أي عقوبة فاصحة، والأظهر أن أفعل التفضيل هنا على بابها‏.‏ وقيل‏:‏ هو من باب العسل أحلى من الخل، لأن بأسهم بالنسبة إلى بأسه تعالى ليس بشيء‏.‏

‏{‏من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها‏}‏ قال قوم‏:‏ من يكن شفيعاً لوتر أصحابك يا محمد في الجهاد فيسعفهم في جهاد عدوّهم يكن له نصيب من الجهاد أو من يشفع وتر الإسلام بالمعونة للمسلمين، فتلك حسنة، وله نصيب منها‏.‏ وحملهم على هذا التأويل ما تقدم من ذكر القتال والأمر به، وقال قريباً منه الطبري‏.‏ وقال مجاهد والحسن وابن زيد وغيرهم‏:‏ هي في حوائج الناس، فمن يشفع لنفع فله نصيب، ومن يشفع لضر فله كفل‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ الشفاعة الحسنة هي التي روعي فيها حق مسلم، ودفع عنه بها شر، أو جلب إليه خير وابتغى بها وجه الله، ولم يؤخذ عليها رشوة، وكانت في أمر جائز لا في حد من حدود الله، ولا حق من الحقوق‏.‏ والسيئة ما كان بخلاف ذلك انتهى‏.‏ وهذا بسط ما قاله الحسن، قال‏:‏ الشفاعة الحسنة هي في البر والطاعة، والسيئة في المعاصي‏.‏ وقيل‏:‏ الشفاعة الحسنة هي الدعوة للمسلم لأنها في معنى الشفاعة إلى الله تعالى‏.‏ وعن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من دعا لأخيه بظهر الغيب استجيب له، وقال له الملك‏:‏ ولك مثل ذلك النصيب» ولدعوة على المسلم بضد ذلك‏.‏ وقال ابن السائب ومقاتل‏:‏ الشفاعة الحسنة هنا الصلح بين الاثنين، والسيئة الإفساد بينهما والسعي بالنميمة‏.‏ وقيل‏:‏ الشفاعة الحسنة أن يشفع إلى الكافر حتى يوضح له من الحجج لعله يسلم، والسيئة أن يشفع إلى المسلم عسى يرتد أو ينافق‏.‏ والظاهر أنّ من للسبب أي‏:‏ نصيب من الخير بسببها، وكفل من الشر بسببها‏.‏ وتقدم في المفردات أن الكفل النصيب‏.‏ وسمي المجازي‏.‏

وقال أبان بن تغلب‏:‏ الكفل المثل‏.‏ وقال الحسن وقتادة‏:‏ هو الوزر والإثم، وغاير في النصيب فذكره بلفظ الكفل في الشفاعة السيئة، لأنه أكثر ما يستعمل في الشر، وإن كان قد استعمل في الخير لقوله‏:‏ ‏{‏يؤتكم كفلين من رحمته‏}‏ قالوا‏:‏ وهو مستعار من كفل البعير، وهو كساء يدار على سنامه ليركب عليه، وسمي كفلاً لأنه لم يعم الظهر، بل نصيباً منه‏.‏

‏{‏وكان الله على كل شيء مقيتاً‏}‏ أي‏:‏ مقتدراً قاله السدّي وابن زيد والكسائي‏.‏ وقال ابن عباس ومجاهد‏:‏ حفيظاً وشهيداً‏.‏ وقال عبد الله بن كثير‏:‏ واصباً قيماً بالأمور‏.‏ وقيل‏:‏ المحيط‏.‏ وقيل‏:‏ الحسيب‏.‏ وقيل‏:‏ المجازي‏.‏ وقيل‏:‏ المواظب للشيء الدائم عليه‏.‏ قال ابن كثير‏:‏ وهو قول ابن عباس أيضاً‏.‏ وهذه أقوال متقاربة لاستلزام بعضها معنى بعض‏.‏ وقال الطبري في قوله‏:‏ إني على الحساب مقيت، إنه من غير هذه المعاني المتقدّمة، وإنه بمعنى موقوت‏.‏ وهذا يضعفه أن يكون بناء اسم الفاعل بمعنى بناء اسم المفعول‏.‏ وقال غيره‏:‏ معناه مقتدر‏.‏

‏{‏وإذا حييتم بتحية فيحوا بأحسن منها أو ردّوها‏}‏ الظاهر أن التحية هنا السلام، وأنّ المسلم عليه مخير بين أن يرد أحسن منها، أو أن يردها يعني مثلها، فأو هنا للتخيير‏.‏

وقال ابن عباس، والحسن، وقتادة، وابن زيد‏:‏ بأحسن منها إذا كان مسلماً، أو ردوها إذا كان يسلم عليك كافر فاردد، وإن كان مجوسياً فتكون أو هنا للتنويع‏.‏ والذي يظهر أنّ الكافر لا يرد عليه مثل تحيته، لأن المشروع في الرد عليهم أن يقال لهم‏:‏ وعليكم، ولا يزادوا على ذلك، فيكون قوله‏:‏ وإذا حييتم معناه‏:‏ وإذا حياكم المسلمون، وإلى هذا ذهب‏.‏ عطاء‏.‏ وعن الحسن‏:‏ ويجوز أن يقال للكافر‏:‏ وعليك السلام، ولا يقل‏:‏ ورحمة الله، فإنها استغفار، وعن الشعبي أنه قال لنصراني سلم عليه‏:‏ وعليك السلام ورحمة الله فقيل له، فقال‏:‏ أليس في رحمة الله يعيش‏؟‏ وكأن من قال بهذا أخذ بعموم وإذا حييتم، لكن ذلك مخالف للنص النبوي من قوله‏:‏ «فقولوا وعليكم» وكيفية رد الأحسن أنه إذا قال‏:‏ سلام عليك، فيقول‏:‏ عليك السلام ورحمة الله‏.‏ فإذا قال‏:‏ سلام عليك ورحمة الله قال‏:‏ عليك السلام ورحمة الله وبركاته‏.‏ فإذا قال المسلم هذا بكماله رد عليه مثله‏.‏ وروي عن عمر، وابن عباس، وغيرهما‏:‏ أن غاية السلام إلى البركة‏.‏

وفي الآية دليل على أنّ الرد واجب لأجل الأمر، ولا يدل على وجوب البداءة، بل هي سنة مؤكدة، هذا مذهب أكثر العلماء‏.‏ والجمهور على أنْ لا يبدأ أهل الكتاب بالسلام، وشذ قوم فأباحوا ذلك‏.‏ وقد طول الزمخشري وغيره بذكر فروع كثيرة في السلام، وموضوعها علم الفقه‏.‏ وذهب مجاهد‏:‏ إلى تخصيص هذه التحية بالجهاد، فقال‏:‏ إذا حييتم في سفركم بتحية الإسلام ‏{‏فلا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً‏}‏ فإن أحكام الإسلام تجري عليهم‏.‏ وروى ابن وهب وابن القاسم عن مالك‏:‏ أن هذه الآية في تشميت العاطس، والرد على المشمت‏.‏ وضعف ابن عطية وغيره من أصحاب مالك هذا القول‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ لأنه ليس في الكلام على ذلك دلالة‏.‏ أما أنّ الرد على المشمت مما يدخل بالقياس في معنى رد التحية، وهذا هو منحى مالك إن صح ذلك، انتهى‏.‏ وذهب قوم إلى أنّ المراد بالتحية هنا الهداية واللطف، وقال‏:‏ حق من أعطى شيئاً من ذلك أن يعطى مثله أو أحسن منه‏.‏ قال ابن خويز منداد‏:‏ يجوز أن تحمل هذه الآية على الهبة إذا كانت للثواب، وقد شحن بعض الناس تأليفه هنا بفروع من أحكام القتال والسلام، وتشميت العاطس، والهدايا، وموضوعها علم الفقه وذكروا أيضاً في ما يدخل في التحية مقارناً للسلام، واللقاء والمصافحة، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بها وفعلها مع السلام والمعانقة، وأول من سنها ابراهيم عليه السلام، والقبلة‏.‏ وعن الحسن في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏رحماء بينهم‏}‏ قال‏:‏ كان الرجل يلقى أخاه فما يفارقه حتى يلزمه ويقبله‏.‏

وعن عليّ قبلة الولد رحمة، وقبلة المرأة شهوة، وقبلة الوالدين برّ، وقبلة الأخ دين، وقبلة الإمام العادل طاعة، وقبلة العالم إجلال الله تعالى‏.‏ قال القشيري‏:‏ في الآية تعليم لهم حسن العشرة وآداب الصحبة، وأنَّ من حملك فضلاً صار ذلك في ذمتك قرضاً، فإنْ زدت على فعله وإلا فلا تنقص عن مثله‏.‏

‏{‏إن الله كان على كل شيء حسيباً‏}‏ أي‏:‏ حاسباً من الحساب، أو محسباً من الاحساب، وهو الكفاية‏.‏ فإما فعيل للمبالغة، وإما بمعنى مفعل‏.‏

وتضمنت هذه الآيات من البيان والبديع أنواعاً الالتفات في قوله‏:‏ فما أرسلناك‏.‏ والتكرار في‏:‏ من يطع فقد أطاع، وفي‏:‏ بيت ويبيتون، وفي‏:‏ اسم الله في مواضع، وفي‏:‏ أشد، وفي‏:‏ من يشفع شفاعة‏.‏ والتجنيس المماثل في‏:‏ يطع وأطاع، وفي‏:‏ بيت ويبيتون، وفي‏:‏ حييتم فحيوا‏.‏ والمغاير في‏:‏ وتوكل ووكيلاً، وفي‏:‏ من يشفع شفاعة، وفي‏:‏ وإذا حييتم بتحية‏.‏ والاستفهام المراد به الإنكار في‏:‏ أفلا يتدبرون‏.‏ والطباق في‏:‏ من الأمن أو الخوف، وفي‏:‏ شفاعة حسنة وشفاعة سيئة‏.‏ والتوجيه في‏:‏ غير الذي تقول‏.‏ والاحتجاج النظري ويسمى المذهب الكلامي في‏:‏ ولو كان من عند غير الله‏.‏ وخطاب العين والمراد به الغير في‏:‏ فقاتل‏.‏ والاستعارة في‏:‏ في سبيل الله، وفي‏:‏ أن يكف بأس‏.‏ وافعل في‏:‏ غير المفاضلة في أشد‏.‏ وإطلاق كل على بعض في‏:‏ بأس الذين كفروا واللفظ مطلق والمراد بدر الصغرى‏.‏ والحذف في عدة مواضع تقتضيها الدلالة‏.‏